باوزير وفتنة القص
يكاد عبد الله سالم باوزير الذي أصدر كتابه الأول (الرمال الذهبية) سنة 1965 و(ثورة البركان) سنة 1968، يكون اليوم الوحيد من بين رواد القصة اليمنية القصيرة الذي ما زال يواصل عطاءه الإبداعي باقتدار. ففي حين انتقل إلى رحمة الله عدد من الرواد وتوقف عدد آخر عن الكتابة، أصدر باوزير منذ سنة 1987 ثلاث مجموعات قصصية (الحذاء 1987، سقوط طائر الخشب 1991، محاولة اغتيال حلم 1999)، بالإضافة إلى (يا طالع الفضاء 1995) و (أيام في بومباي 1998) وطبعة جديدة ومزيدة من (سفينة نوح 2001).
يبدو أن سر مواصلة باوزير للكتابة يكمن في افتتانه بفـــــن القــــــص، وأن رغبته في القص هي التي دفعته وما زالت تدفعه إلى الكتابة. فهو، بالإضافة إلى إتقان لغة القص العربية كما تجلت في كتاب (ألف ليلة وليلة) وكتابات محمود تيمور ويحي حقي ويوسف إدريس، استطاع أن يتقن الوصف وتصوير المشاهد بدقة تضاهي دقة كبار القاصين والروائيين الواقعيين، وكذلك رسم الشخصيات من خلال التركيز على أهم ملامحها الخارجية. ومنذ مجموعته الأولى استطاع باوزير أن يربط البناء السردي بفــن المفارقة أو السخرية التي تتزامن في كثير من قصصه مع لحظة التنوير، والتي توقف عندها معظم الدراسات القليلة المكرسة لباوزير. فقصص باوزير القصيرة، على الرغم من نضجها وقراءتها من قبل القاصين اليمنيين وتأثيرها في كتابات عدد منهم (أنظر مثلاً العلاقة بين قصة "بائعة الخمير" في مجموعة (الرمال الذهبية 1965) ورواية (يموتون غرباء 1972) لمحمد عبد الولي)، لم تحظ باهتمام النقاد لاسيما اليمنيين.
في السطور الآتية سنحاول أنْ نثبت أنّ عبد الله سالم باوزير كاتبٌ مفتونٌ بفـــن القـــــص. لكنا لن نفعل ذلك من خلال تقديم تحليل لمجموعاته القصصية التي استطاع بواسطتها أنْ يصبح قاصاً متمكناً من مختلف تقنيات فن القص وأن يفرض نفسه في الساحة الأدبية اليمنية منذ منتصف الستينات، بل من خلال الكشف عن تجليات عناصر الفن القصصي - بما فيها الوصف والسرد الحوار- في كتاباته الأخرى التي لا تصنف ضمن قصصه القصيرة، وتحديداً في كتابي (أيام في بومباي) و(سفينة نوح) ومسرحياته التي نشرها سنة 1965 ضمن كتاب (الرمال الذهبية).
الأبعاد القصصية في (أيام في بومباي):
يندرج كتاب (أيام في بومباي) الذي صدر عن مركز عبادي للدراسات والنشر سنة 1998 في إطار أدب الرحلات. وبما أنّ سبب قيام المؤلف بهذه الرحلة هو مرافقة طفل مريض بهدف علاجه في بومباي فمن الطبيعي أن تتركز أحداث الرحلة في مستشفيات تلك المدينة الهندية وفنادقها. ومع ذلك، فقد سعى المؤلف إلى إضفاء بعض مقومات أدب الرحلات على كتابه وذلك من خلال تضمينه عدداً كبيراً من المعلومات الأنثروبولوجية والاجتماعية والاقتصادية عن سكان بومباي. لكن باوزير لا يقدم تلك المعلومات في شكل تأملات أو ملاحظات فلسفية أو جغرافية، بل يقوم بذلك بواسطة استخدام معظم مكونات الفن القصصي من سرد للأحداث ووصف للمشاهد ورسم خارجي وسريع للشخصيات، ولجأ كذلك إلى أسلوب الحوار.
في ما يتعلق بالوصف مثلاً، يبدو أن باوزير يرتقي به في هذا الكتاب إلى مستوى أرقى من مستوى الوصف الذي نجده في قصصه القصيرة. فهو، في صفحة 38، يقدم لنا وصفاً دقيقاً لمشهدٍ في مدخل أحد الفنادق يذكرنا بأسلوب بلزاك أو جوستاف فلوبير مؤلف رواية (مدام بوفاري) في الوصف. فنحن نقرأ في هذه الصفحة: "أول ما لفت أنظارنا هو صالة الانتظار بالفندق، وهي صالة كبيرة جداً، وقد تدلت من السقف ثريات فخمة، وفرشت أرضيتها بالسجاد الفاخر. ووزعت على حوافي تلك الصالة من الجهات الأربع أحواض زهور طبيعية بديعة بدت وكأنها حاشية لذلك السجاد الذي غطى كل أرض الصالة. وتوسط هذه الصالة صهريج ماء صناعي واسع، يظل الماء ينسكب فيه ليل نهار مكوناً شلالاً جميلاً يتناثر رذاذ مائه حتى ملابسنا، وقد انتشر في الجو هواء بارد لطيف كنسيم السحر. وكانت الواجهة الجانبية للصالة المواجهة للبحر من الزجاج الخالص حتى يخيّل للجالس فيها وكأنه يجلس على شاطئ البحر. وعلى يسار الصالة انتصبت منصة الاستعلامات وقد جلس عليها موظفو الفندق وموظفاته، وكان الرجال يلبسون بدلات خضراء في حين ارتدت النساء الساري الهندي مع الصديري، والاثنان لونهما أخضر، فكنّ يذهبن ويجئن من حولنا كفراشات يطرن في بهجة وحبور".
أما بالنسبة للشخصيات الكثيرة التي يقابلها باوزير في أثناء رحلته فهو، كما هي عادته في قصصه القصيرة، يحاول أن يكشف لنا عن طباعها من خلال رسم ملامحها الخارجية التي يختارها بدقة. كما أنّ الرحالة باوزير لا يقدم شخصياته إلاّ في سياق درامي؛ أي وهي تقوم بفعلٍ ما. يمكننا أن نلمس ذلك عند قراءتنا للتقديم الآتي لسكرتيرة تعمل في إحدى الشركات: "لما تلفت حولي أبصرت أمامي نافذة صغيرة يطل منها وجه فتاة جميلة.. تفرست فيها برهة قبل أن ألقي عليها سؤالي. كانت قسمات وجهها المستطيل رقيقة جداً. ذقنها مدبب وعيناها واسعتان وشفتاها بارزتان بشكل ملحوظ كمنقار عصفور..ولما رأتني أمامها أرسلت نظراتها إليّ في استفسار وعيناها النجلاوان ترشقانني بسهامهما، فاضطربت ولم أعرف ماذا أقول، وبأي لغة أخاطب ذلك الطير وأحرجتني نظراتها وأنا واقف أمامها كالصنم" ص 43.
كما أنّ باوزير، لكي يضفي على رحلته مزيداً من الإثارة والحيوية، يلجأ إلى أسلوب السرد القصصي الدرامي ليقدم بعض المعتقدات والعادات الهندية مثلما فعل في السطور الآتية التي تبرز أيضاً قدرة المؤلف على استخدام أسلوب المفارقة الساخرة حتى في المواقف التي تنذر بخطر الموت: "بينما أنا في ذلك الجو الساحر أتابع تدفق الإشعاعات الذهبية وهي تتغير من لونها الذهبي إلى اللون الفضي إذا بعجوز مقبلة في اتجاهي تحمل بيدها صرة رثة ويتبعها ثلاثة صبيان من الشحاذين، وكنت أول الأمر أظن أن هذا الطابور متجه إليّ، لكن المرأة اتجهت إلى مكان آخر من السور غير بعيد عني، واجهت البحر ثم وضعت صرتها على السور أمامها. وظلت واقفة برهة من الوقت تتمتم وكفيها مرفوعان أمامها، ثم فتحت صرتها فإذا بها عدد من الأرغفة وزهرة واحدة وحفنة من النقود المعدنية. ألقت أولاً بالزهرة ثم بالأرغفة وأخيراً بالنقود ثم عادت من حيث أتت. حينها تذكرت أنه العيد، وأن تلك العجوز البائسة قد حرمت نفسها من الغذاء لتطعم معبودها البحر؛ عقل منحرف و عادات غريبة لم يعد لها في زماننا الحالي مكان إلاّ في بومباي. ولاحت مني التفاتة طغت على تأملاتي تلك لأرى أن الأطفال الثلاثة قد وقفوا على السور في تأهب تام لرمي أنفسهم في البحر. قمت مذعوراً محاولاً أن أثنيهم عن عملهم الانتحاري هذا وأنا أحدث نفسي قائلاً: إن تطعم تلك العجوز الحمقاء البحر وتظل جائعة فهذا من شأنها فالموت أرحم لها، لكن ما ذنب هؤلاء الأطفال ليقدموا أجسادهم قرباناً للبحر ويكونوا طعاماً للأسماك؟ وبينما هذه الأسئلة تضج في ذهني، إذا بهم يتقافزون إلى البحر، فوقفت جامداً ومددت عنقي وعيناي تكادان تخرجان من حجريهما من شدة الهلع عليهم، حتى غاصوا في الماء وكادوا أن يغيبوا عن نظري، ثم إذا برؤوسهم تطل على السطح، وإذا بهم يشقون الماء ويتسلقون السور كالقرود ثم انتصبوا أمامي والماء يتساقط من أجسادهم الهزيلة العارية إلاّ من سراويل قصيرة وقبضات أيديهم تتشبث بشيء ما؛ ثم تجمعوا وأخذوا يعدون النقود التي انتشلها من قاع البحر، حينها تبين لي أن هؤلاء الصغار أعقل من تلك العجوز، وأنهم كانوا على علم بأمرها، فهم كل ما رأوا امرأة في طريقها إلى البحر لترمي بنذرها تبعوها وأخذوا النقود التي عادة ما تستقر في الأعماق. تصرفهم الذكي هذا جعلني أوقن بأن بعض المعتقدات القديمة هي في طريقها إلى الزوال. إذا لم يكن اليوم فغداً وعلى يد مثل هؤلاء الصبية" ص53.
ومن العناصر القصصية التي تبعد (أيام في بومباي) من نصوص أدب الرحلات التقليدية: الحــــوار الذي يحتل مساحة كبيرة من النص قد تصل في بعض الأجزاء إلى أكثر من النصف كما هو الحال في الفصل الأخير. ولكي نبيّن أن باوزير يكرس كل تلك المساحة للحوار بهدف إضفاء مزيدٍ من الإثارة والحيوية والطرافة على نصه، يمكن أن نقرأ هذا الحوار القصير:
"لا أدري لماذا ثبت في ذهني في تلك اللحظة أن الرجل سمسار. في أي شيء؟ لم أكن أجزم بشيء محدد. أخذ ينظر إلي وكأنه يريد أن يحدثني بشيءٍ ما، ولكنه كان يحجم في آخر لحظة، حتى ضقت به ذرعاً، وحاولت أن أنهض, لكنه أخيراً نطق وقال بلغة عربية مكسرة:
- أنت "أربي"؟
هززت رأسي بالإيجاب.
فقال: - يريد "هرمه"؟
قلت بالهندية: - "ني"
قال: - بنت مدارس؟؟
قلت بالإنجليزية: - "نو"
سكت لحظة، ثم نطق بكلمة أغضبتني فقمت وأنا أصيح بالعربي:
- لا..لا..لا!"
الأبعاد القصصية في (سفينة نوح):
كما هو الحال بالنسبة لـ (أيام في بومباي)، يبرز كتاب (سفينة نوح) كنص قصصي ذي بنية سردية متصدعة؛ فهو يتوزع - في طبعته الأولى- على ثمانية أجزاء وخاتمة. في هذه الخاتمة يقدم المؤلف كتابه على أنه مجموعة من الذكريات التي فرغ من كتابتها في نوفمبر 1972. لكن عند اقترابنا من النص يتبيّن لنا أنّ كل جزء من أجزائه يتمتع بقدرٍ كبير من الاستقلالية. وما يربط بين تلك الأجزاء ليس كونها حقاً ذكريات للمؤلف بل سكنُ أبطال الأحداث التي تروى في كل منها في العزبة التي أطلق عليها سكانها "سفينة نوح". كما أنّ معظم الأجزاء يحتوي على أبعاد قصصية مختلفة تجعلنا نرى في كل منها قصة قصيرة، بل أنّ المؤلف نفسه لم يتردد في تسمية الجزء السادس بـ"قصة الوسادة".
في هذا لنص يستخدم باوزير أسلوب التأطير القصصي الذي نجده في كتاب (ألف ليلة وليلة) وفي كثير من قصص موبسان وكذلك في إحدى أشهر قصص مجموعته (ثورة البركان): "لقاء مع الغروب". فالراوي الأول (المؤلف؟) يحكي لقاءه بأحد سكان "سفينة نوح" في "الشيخ عثمان" في يوم زيارة الهاشمي وهو حامل وسادة وردية! وقد دعا ذلك الزميلُ المؤلفَ ومجموعة من سكان السفينة إلى أحد المقاهي ليحكي لهم كيفية حصوله على الوسادة كذكرى من إحدى النساء.
ويمكن أنْ نشير هنا أنّ هذا الأسلوب القصصي مكّن المؤلف من اعتماد راو يشارك في الأحداث أي راو يستخدم ضمير المتكلم. ومن المعلوم أنّ باوزير قد استخدم راو مشارك في الأحداث في نصف قصص كل من مجموعة (سقوط طائر الخشب) ومجموعة (محاولة اغتيال حلم). ومن أبرز أوجه الشبه الأخرى الموجودة بين (سفينة نوح) ومجموعات باوزير القصصية: تشظي البنية السردية وانفتاحها. وبفضل هذه البنية المفتوحة استطاع باوزير أن يضيف قصصاً أو أجزاء جديدة إلى مجموعاته التي أعيدت طباعتها، وكذلك إلى (سفينة نوح) التي تحتوي في طبعتها الثانية (سنة 2001) أكثر من ضعف "قصص" الطبعة الأولى.
*
وبالنسبة "للمسرحيات" السبع التي يتضمنها كتاب (الرمال الذهبية)، يبدو أنها تقترب من جنس القصة القصيرة أكثر من اقترابها من الجنس المسرحي الذي - كما نعلم - يعتمد على محاكاة السلوك البشري بواسطة أشخاص يفعـــــلون ويتصـــارعون وليس بواسطة السرد والوصف اللذين تعتمد عليهما الرواية والقصة القصيرة. ويمكننا أن نلمس ذلك من خلال عرض سريع لمسرحية "الضحية".
تبدأ هذه المسرحية، كغيرها من المسرحيات الست الأخرى وعدد كبير من قصص عبد الله باوزير، بتقديم للمكان، ووصف للشخصيات يكشف المؤلف من خلاله - للقارئ وليس للمشاهد- عن الحالة الاجتماعية لتلك الشخصيات. فالفصل الأول من المسرحية يبدأ بالجملة الطويلة الآتية: "ربوة مرتفعة في إحدى ساحات القرية وقد جلس عليها عدة أشخاص يظهر الشقاء والبؤس على وجوههم السمراء التي لفحتها أشعة الشمس فأحالتها إلى السواد، وارتدى أكثرهم أطماراً بالية تخفي ما بين السرة والركبة وعلى رؤوسهم "كوافي" تمزقت أطرافها وترسبت عليها طبقة من الأوساخ فغدت بلون الوحل، وقد تعرت ظهورهم عدا ثلاثة منهم تصدروا المجلس لابسين قمصاناً بيضاء تكدرت ألوانها" ص126.
في هذه المسرحية لا يقع الحدث الدرامي على "خشبة" المسرح. في المسرح تكتفي الشخصيات بالسرد أي القص. فالفصل الأول من المسرحية يتكوّن مما يحكيه مبارك عن مريم بنت الشيخ منصور، ويتكوّن الفصل الثاني مما يرويه يسلم من أحداث وقعت لهذه البنت بسبب ما رواه مبارك في الفصل الأول. أي أنّ المسرحية تعتمد كلياً على قليل من الوصف وكثير من السرد المتشظي في شكل حوار. وتجدر الإشارة إلى أنّ القاص عبد الله باوزير قد وظف أسلوب الحوار بصورة كبيرة في عدد لا بأس به من قصصه القصيرة وبشكل أفضل من الطريقة التي وظفه بها في مسرحية "الضحية". فقصص مثل "الاعتراف" و"التفاح المر" و"حفلة تعارف على ضوء الشموع " تعتمد كلياً على الحوار الذي يعد العامل الحاسم في تنامي الحدث الدرامي فيها.
من خلال هذا العرض الموجز لبعض جوانب "أيام في بومباي"، و"سفينة نوح" ومسرحيات "الرمال الذهبية"، نعتقد أنه باستطاعتنا أن نضع تلك الكتابات في تخــوم القصة القصيرة، وأنْ نقرر - بالتالي- إنّ عبد الله سالم باوزير ظل في تلك النصوص يمارس الكتابة القصصية. والسر في ذلك هو - كما ذكرنا- افتتانه بالقـص. ومما يرسخ أكثر هذا الاعتقاد لدينا اكتشافنا أنّ باوزير الذي لم يلجأ حسب علمنا إلى كتابة المقالة الصحفية للتعبير عن آرائه ومواقفه، قد استخدم القصة القصيرة لفضح بعض الممارسات الخاطئة التي تعرض لها خلال فترات مختلفة من حياته. وهو يعترف أنّ قصة "الدائرة" في مجموعة (سقوط طائر الخشب) وقصة "صندوق جدتي نفيسة" في مجموعة (الحذاء) تقعان في هذا الإطار. أما قصة "حسك ومسك وزعفران" في مجموعة (سقوط طائر الخشب) فتعد - في اعتقادي - من أجمل النصوص النقدية التي تصدت لبعض "شطحات" شعر ما بعد الحداثة التي ظهرت في ثمانينات القرن الماضي. لكل ذلك يمكننا القول إنّ القـص بالنسبة لباوزير كما هو الحال بالنسبة لشهرزاد أصبح مرادفاً للحياة.
- د. مسعود عمشوش
المصدر : موقع د. مسعود عمشوش
http://www.yemenitta.com/maqal6.htm
تاريخ الإدخال : 30 يونيو 2004 م