أنت هنا

ثقافة عامة و منوعات

الطريق إلى خيلة

الطريق إلى خيلة 

الشيخ عبد الله أحمد بقشان مع فخامة الرئيس اليمني خيلة بقشان الشيخ عبد الله أحمد بقشان مع سمو ولي العهد السعودي

 

### 1 ###

منذ بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق توحدت جزيرة العرب تحت راية لا إله إلا الله، بقيادة محمد رسول الله، فتآزرت القلوب وصفت، واختفت الفتن والمحن، وزالت مظاهر الشرك، فلا ثأرات قبلية، ولا تمايزات طبقية، ولا سيد ولا مسود، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى فالكل أمام الله سواء.

بهذا وعلى هذا تآخى أهل جزيرة العرب على المحبة في الله، وضرب الأنصار للمهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المثل الأعلى في المحبة والأخوة، وتنادت كل قبائل جزيرة العرب بهذه المحبة والأخوة تتسابق إليها، فلم يعرف تاريخ البشرية حباً وإيثاراً وأخوة أعظم من حب أبناء جزيرة العرب لبعضهم بعضاً وإيثارهم بعضهم على بعض ولو كان بهم خصاصة، فكان ذلك أغلى ثمن يقدم لأخوة صادقة حميمة مخلصة أمرهم الله بها من فوق سبع سموات، فعاشوا حقيقةً في أنفسهم، وقدموها عملاً صادقاً ومحبة خالصةً لوجه الله، وانطلقوا بها يفتحون مغاليق قلوب الشعوب والأمم فتدين لهم بالمحبة والولاء قبل أن تطأ أقدام خيولهم أراضيها.

كانت قبائل جزيرة العرب النجدية والحجازية واليمانية والحضرمية في طليعة الفتوح الكبرى إلى مصر والشام والأندلس فكانوا القادة والوزراء والعلماء والقضاة على نحو ما تشهد به كتب التاريخ والأدب، فكانت هذه القبائل التي انطلقت من جزيرة العرب المادة الأصل التي أعطت لما سمي فيما بعد بالوطن العربي الكبير عروبته، وما كان لتلك البلدان أن تصبح عربية إلا بالإسلام الذي اختار الله انبعاثه في جزيرة العرب، واختار أن يكون انتشاره على يد أبنائها دون غيرهم - بداية - وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وكما وحد الله قلوب أهل جزيرة العرب بالإيمان على المحبة والإيثار والإخاء وحد طبيعة أرضها، ونوع مناخها، فالأرض منبسطة في وسطها لا يعترض السائر على قدميه من نجد إلى حضرموت سهل أو جبل ولا نهر أو بحر، جبالها في أطرافها وسواحلها رطبة ندية، فمناخ جدة والدمام والخبر على البحر الأحمر والخليج يماثله مناخ الحديدة وعدن والمكلا على البحر الأحمر والمحيط، ومناخ المرتفعات البارد والمعتدل في الطائف يقابله مناخ صنعاء وما حولها، والمناخ الصحراوي الجاف في قلب الجزيرة تتساوى فيه الرياض بنجد مع سيوون بحضرموت.

وقد انعكس هذا التشابه في المناخ وطبيعة الأرض إضافة إلى الإيمان العميق الراسخ في القلوب، انعكس على طبيعة البشر وعادات المجتمع، وأهم الطبائع التي تجمع أبناء جزيرة العرب، الكرم وحبهم للخير، والتسابق على الإيثار، وقد يتبادر إلى ذهن من لم يقرأ التاريخ أن هذه الصفات ظهرت مع ظهور الثروة في العصور الحديثة، وهذا غير صحيح لأن الكرم وحب الخير صفات ترتبط بطبيعة النفس البشرية ولا علاقة لها بالأحوال الاقتصادية، ويستوي فيها الغني والفقير، لأنك قد تجد في طبائع البشر غنياً ذا نفس فقيرة فلا يجود بينما يجود فقير ذو نفس غنية.

وبالمثل فإن الدارس للعادات والتقاليد في كل مواطن جزيرة العرب قبل الإسلام يجد أنها واحدة في محاسنها كالغيرة على العرض والذود عن الأرض، وإكرام الضيف، وإجارة المستجير، وإغاثة المكروب، والتعاطف، والتراحم، والوفاء بالعهد، والصدق، والأمانة، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق) ولم يقل لأرسي مكارم الأخلاق مثلاً.. رفع الإسلام من قدر مكارم أخلاقهم وأكد عليها وأضاف إليها وحط من أخلاق جاهليتهم وطبائعها وعاداتها ونهاهم عنها، وكلما ظهر منها عليهم شيء سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ناهياً (دعوها فإنها منتنة) وكلما اختلفوا سمعوه يقول آمراً: (لا ترجعوا من بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وكلما تمايزوا بغير تقوى الله سمعوه محذراً مغضباً: (لا يأتني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.. من أبطأ به عمله لم يسبق به نسبه.. والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)!!.

وكما حفظ الله لجزيرة العرب وحدة قلوب أهلها وترابها بعد أن أعطاهم فضل حمل الرسالة وأداء الأمانة، حفظ لها وحدة دينها دون سائر بلاد المسلمين، فلا ترتفع راية لدين غير دين الإسلام فيها، وفق ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) وهذا تشريف ثالث لهذه الجزيرة بعد اختيار رب العالمين لرسوله من بين أهلها، ووجود الحرمين الشريفين على أرضها يحج إليهما المسلمون من كل فج عميق.

فلا عجب بعد هذا كله أن تكون العلاقة بين منظومة دول الخليج والمملكة العربية السعودية واليمن في منتهى التوافق والتكامل والانسجام، وإنما العجيب أن يكون غير ذلك، فالشعب واحد والأرض واحدة، والتاريخ واحد، وتاريخ مستمر لأنه يقوم على رابطة العقيدة الحية التي لا تموت، فإذا كان التاريخ في قواميس اللغة أو مصطلحات بعض الحضارات هو الماضي الذي حدث وانتهى وانفصل عن الحاضر، فإن التاريخ عند العرب بعد الإسلام متصل لا ينفصل ما داموا مرتبطين بعقيدتهم، لأن هذه العقيدة هي التي أدخلتهم التاريخ وبدونها ينفصلون عنه ويخرجون منه.

والتلاحم والتعاضد الذي يحدث الآن بين أبناء جزيرة العرب متمثلاً في تقوية الوشائج والروابط والشعور المشترك بوحدة المصير بين وطنين في الجزيرة العربية يعيش فيهما شعب واحد ما هو إلا امتداد لهذا التاريخ العظيم الذي تتصدره أكبر قوتين في الجزيرة العربية، المملكة العربية السعودية واليمن، وإذا كانت الخلافات السياسية قد عكست صفو العلاقة بين الوطنين فما ذلك إلا لحظات عابرة من عمر التاريخ وسطحية لم تؤثر على وشائج القربى والرحم بينهما.. وما يؤكد هذه الحقيقة الازدهار العظيم الذي تمر به هذه العلاقة الحميمة من خلال التواصل الرسمي بين الدولتين، والتواصل الوطني ضمن لحمة نسيج شعب واحد في وطنين.

وما يتحقق الآن على مستوى الوطنين ما هو إلا تطبيق لمبدأ (يد تبني ويد تحمي)، فكل وطن هو عمق إستراتيجي للآخر، والتعاون الأمني بين الوطنين ضد الإرهاب أكد هذه الحقيقة، وبدونه ما كان لفتنة الإرهاب أن تخمد نارها بالشكل الذي هي عليه الآن، وفي الوقت الذي تسهر عيون المخلصين على حدود الوطنين وفي أعماقهما على تتبع المرجفين تتحرك أيدي المخلصين للبناء وعقول المفكرين بالتخطيط لمستقبل أكثر أمناً ورخاءً وازدهاراً يسود ربوع جزيرة العرب.

حركة التكامل على المستوى الاقتصادي بين الوطنين في تبادل المتنجات بحرية أكثر، وما تشجيع المملكة لرجال الأعمال من مواطنيها بالاستثمار في اليمن الشقيق لتوسيع القاعدة الصناعية والإنتاجية والمساهمة في التنمية الوطنية إلا وجه آخر من وجوه دعم المملكة لشقيقتها اليمن، فإذا كانت المملكة في مراحل البناء التنموي الأولى قد حلت معضلة اقتصادية باستيعاب العمالة اليمنية الفائضة ونظرت بالتقدير لما قدمه إخوانها اليمنيون لنهضتها المعمارية وحركتها التجارية، فإنها الآن بتشجيع الرأسمال الوطني السعودي بالاستثمار في اليمن تعمل على استيعاب هذه العمالة داخل وطنها اليمن، بتوفير أسباب العيش الكريم لها، وهو عامل من أهم عوامل استقرار الأوطان في كل زمان ومكان

### 2 ###

إن الدعوة إلى التكامل بين دول جزيرة العرب في العصر الحديث دعوة قديمة دعا إليها الكثير من أبنائها الغيورين في المملكة واليمن، ورائدها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - الذي وحّد معظم أرضها تحت راية لا إله إلا الله.

وقد أثبتت أحداث التاريخ أن ما يحدث في المملكة له صداه وأثره في اليمن، وما يحدث في اليمن يكون كذلك.. فعندما نشبت فتنة الخارجين على الملك عبدالعزيز سنة 1351هـ يتزعمها حامد بن رفاده ابتغاء تمزيق الوحدة التي أرسى قواعدها الملك عبدالعزيز آل سعود في جزيرة العرب، كان لها صداها في أنحاء اليمن بما فيها حضرموت بين المفكرين والدعاة الإسلاميين من ذوي الاتجاه السلفي المستنير والأدباء الشباب، الذين كانوا يتطلعون بالإعجاب والتقديم لما أنجزه الملك عبدالعزيز، وكان الشاعر الكبير علي أحمد باكثير يمثل بصوته الجهير هذه الطليعة فنظم قصيدة في 26 - 3 - 1351هـ بعنوان (يا من لليل العرب طال) يستنكر فيها خروج ابن رفاده وجماعته على الملك عبدالعزيز بعدما حققه من إنجاز عظيم وصفه بقوله:

 

عبدالعزيز الفارس المغوار والملك المظفر    جئت (الحجاز) فصنته ممن يعبث به ويفجروأقمت  أقمت فيه الدين من أوهام سطرها مؤجر  فبدا هدى المختار وضاءً كنور البدر أزهر

 

ثم يحذر باكثير الملك عبدالعزيز من أعداء السلام وأعداء الوحدة في جزيرة العرب، ويدعوه إلى الاستمرار في التفاهم مع إمام اليمن يحيى حميد الدين لالتئام الشمل فيقول:

 

إن الجزيرة من أولاء القوم في خطرٍ مُقرر  فامدد يديك إلى (الإمام) فباتحادكما تُحرر لا سور غير الاتحاد به جزيرتنا تُسوَّر  كلاكما الشهم الهمام كلاكما الفطن المنوَّر

 

فثم يعود ويؤكد على المعنى نفسه، وهو حتمية التكامل بين هذين الوطنين؛ فكل منهما عمق للآخر، يقول باكثير من أعماق قلبه:

 

لا تتركا فرص الزمان تضيع إن الوقت جوهر  فتضامنا وأنا الكفيل بأن سؤددنا سيُنشر  فخر العروبة أنتما إن يبق للعربي مفخر  مني السلام عليكما، وتحية الرحمن أعطر

 

ولكن الإمام يحيى، كما هو معروف، خيّب أمل باكثير وأمل المثقفين اليمنيين وصعَّد الأحداث حتى أدت إلى تشعب الخلاف الذي انتهى إلى ما انتهى إليه، وكان موقف الكثير من المثقفين اليمنيين في صنعاء وعدن وحضرموت مؤيداً لموقف الملك عبدالعزيز، وهو ما كشفته لي الرسائل المتبادلة آنذاك بين علي أحمد باكثير ومحمد علي لقمان من أعلام الأدب والفكر في عدن آنذاك وصاحب أول مؤسسة صحفية هناك.

الذي يهمنا من هذا كله الوقوف عند تاريخ الوعي المبكر بأهمية التكامل بين هذين الوطنين، وأن ما يحدث الآن من تعاون ليس جديداً وإنما هو ثمرة لجهود بذلت عبر عهود متعاقبة، فلا عجب أن نرى هذا التعاون والتكامل يمتد إلى التعليم؛ لأنه أساس الوعي، فزيارة وفد من الجامعات السعودية (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن) للجامعات اليمنية في صنعاء وعدن وحضرموت في ربيع الآخر 1425هـ الموافق مايو 2004م تُعَدّ خطوة للتمكين لهذا الوعي بما أعقب هذه الزيارة من اتفاقات تنسيق حول المناهج والندوات والابتعاث العلمي وتبادل الأساتذة والإشراف على الرسائل الأكاديمية وغيرها، وأعقب ذلك اسبوع الجامعات السعودية في اليمن حيث توجه وفد كبير من أساتذة الجامعات السعودية برئاسة وزير التعليم العالي د. خالد العنقري إلى اليمن، وأمضى أسبوعاً أكاديمياً واحتفالياً بين الجامعات اليمنية في الفترة من 13 - 19 - 12 - 2004م، وقد أثمرت هذه اللقاءات المزيد من الترابط والتكامل الأكاديمي في كل المجالات التعليمية بين الوطنين الشقيقين.

ووصل هذا التواصل إلى أبعاد أخرى، حيث زار حضرموت وفد من الجمعية السعودية للعلوم والعمران برئاسة سمو الأمير د. خالد بن عبدالله بن مقرن آل سعود بدعوة من جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا والمهندس الشيخ عبدالله أحمد بقشان، وسافر الوفد إلى أعماق حضرموت التاريخية حيث شاهد فن العمارة الطينية القائمة منذ مئات السنين في مدن سبئام وتريم وسيقون والهجرين، وأعجب بمباني مدينة سبئام الطينية العالية التي تكاد تناطح السحاب، واهتم الوفد بدراسة سر صمودها وتماسكها عبر القرون.

وبالمثل أرسلت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض اثنين من أساتذتها المختصين وهما د. علي شويش ود. مساعد الطيار لزيارة مكتبة المخطوطات بمدينة تريم بحضرموت لدراستها وتقييم حالتها وتقديم العون فيما تحتاجه من ترميم وحفظ أو دراسة أو بحث.

وعلى مستوى التعاون الطبي والصحي عموماً بين الوطنين الشقيقين توالت البعثات الطبية السعودية إلى كافة أنحاء اليمن الرسمية منها والخيرية التطوعية، حيث تقام المخيمات الطبية السعودية التخصصية لعدة أيام وتجرى فيها مختلف العمليات الجراحية التي لا تتوافر لإجرائها الكفاءة الطبية البشرية أو الجاهزية التقنية في اليمن، وقد تحركت لتلبية هذا الواجب الأخوي والإسلامي وحق الجوار العديد من الجمعيات والمؤسسات الخيرية وكبار المحسنين من الأفراد الذين ينفقون على تكلفة السفر والإقامة، أما الطاقم الطبي فهم من المتطوعين بوقتهم وعلمهم لوجه الله تعالى.

وبهذا كله.. بجسور التعاون العلمي والتعليمي والثقافي والصحي يكون الاهتمام بإعمار الإنسان أساساً للاهتمام بإعمار الأرض، فما اندفاع الكثير من المستثمرين السعوديين سواء الذين هم من أصول حضرمية يمنية أو من أصول سعودية، إلا خطوة تاريخية نحو تحقيق فكرة التكامل بين أكبر وطنين في جزيرة العرب، وهي استراتيجية أقرتها كافة الاتفاقات بين المملكة واليمن وأكدتها على أرض الواقع كافة محاور التحرك الاقتصادي والاستثماري والتبادل التجاري بين الوطنين.

وهكذا، فالأمر لم يعد بالنسبة للمستثمرين السعوديين من ذوي الأصول الحضرمية مسألة وفاء للوطن الذي أنجبهم، ولا هو بالنسبة للمستثمرين السعوديين الآخرين أداء لحق الجوار والرحم والقربى، وإنما اجتمعت هذه العوامل كلها في أهاب الاستراتيجية الأساسية وهي استراتيجية الاهتمام بوحدة الهدف والاهتمام بوحدة المصير في جزيرة العرب، وما عدا ذلك فما هو إلا وسائل لمشروعية هذه الاستراتيجية التي تبدأ انطلاقتها من مقاومة الجهل والفقر والمرض إلى مقاومة الإرهاب، وفي هذه الاستراتيجية تطبيق فعلي للمبادئ الإسلامية السامية في رعاية حق الأخوة (الأقربون أولى بالمعروف) وحق الجوار العظيم حيث ظل جبريل يوصي نبي هذه الأمة بالجار حتى ظن أنه سيورثه، وحق الإيمان الذي يشد فيه المؤمنون بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص، فلا يتمكن عدو من اختراق صفوف أحدهم لينال من أخيه، وهذا ما يحدث الآن، ويحقق بالتعاون الصادق والمخلص والتكامل الأمني بين الوطنين الشقيقين.

فهل من عجب بعد هذا كله أن تنطلق أفواج من أفذاذ الرجال في هذا الوطن علماء وأطباء ومهندسين ورجال أعمال ورجال دولة وأساتذة جامعات على متن طائرات عبدالله أحمد بقشان الخاصة إلى حضرموت ومناطق أخرى في اليمن للتعرف بالمشاهدة على ذلك الجزء المهم من جزيرة العرب واستكشاف عجائبه وتاريخه والمشاركة في استخراج خيراته، واستثمار المال في صناعة الرجال وإعمار الأرض وتدوير رأس المال في كل ما يعود بالنفع لأبناء الجزيرة جميعاً على كافة المستويات.

 

### 3 ###

على طريق التواصل الحميم بين الوطنين الكبيرين المملكة واليمن، رجال دولة وأعمال، ومستثمرون وأطباء، وأساتذة جامعات، وصحفيون، ومواطنون، أثمرت الرحلات المكوكية التي يوجِّهها المهندس الشيخ عبد الله أحمد بقشان على متن طائراته الخاصة إلى مختلف مناطق اليمن، وإلى حضرموت على وجه الخصوص، عدة أهداف وطنية واقتصادية وثقافية.

وصبت كل هذه الأهداف في خدمة الهدف الإستراتيجي في سياسة البلدين تجاه الآخر، وهو الهدف الذي يكرِّس أواصر الروابط والتلاحم بين الوطنين الكبيرين في الجزيرة العربية - أرضاً وشعباً وحكومات -، لتعميق الجذور التاريخية التي تربط بينهما، فإذا كان الاختلاط والتمازج بين هذين الشعبين قد تمَّ على أرض المملكة خلال العقود الماضية، فإن عبد الله أحمد بقشان يُساهم في إتاحته الآن على أرض اليمن، ويُحقق به انفتاحاً حضارياً على ذلك الجزء الغالي من جزيرة العرب، فكل الذين شدّوا الرِحال مع عبد الله أحمد بقشان بمختلف تخصصاتهم ومناصبهم في كل ما كتبوه من مقالات، أو أدلوا به من أحاديث وتصريحات، كانوا في منتهى الإعجاب بما شهدوه في ذلك الوطن، وفي منتهى العجب من أنهم قد طافوا بلاد العالم شرقاً وغرباً، ولم يفكروا من قبل في زيارة الأقربين، والأكثر عجباً أن بعض رواد هذه (الرحلات الاستكشافية) من الذين ينحدرون من أصول حضرمية ما كانوا ليفكروا في زيارة موطن الأجداد، لو لم يتح عبد الله أحمد بقشان هذه الزيارات التاريخية لهم ولغيرهم.

والحقيقة أن الذين لم يفكروا في زيارة أوطان أجدادهم، وربما آبائهم لم يكونوا قاصدين ذلك، بقدر ما حالت بينهم وبين تلك الأمنية ظروف وقوع ذلك الجزء العزيز من جزيرة العرب تحت جبروت حكم شيوعي تسلَّط على تلك البلاد قرابة الثلاثين عاماً وأغلقها دون العالم.

هذا بالنسبة لأبناء الجيل الجديد، أما بالنسبة للآباء، وخصوصاً الذين ولدوا في حضرموت، وقدموا إلى المملكة صغاراً، ومعظمهم اليوم من رجال الأعمال السعوديين المشهود لهم بالعصامية والنبوغ، وبعضهم لم يزر مسقط رأسه منذ خرج منه لأول مرة، فقد حمدوا للمهندس عبد الله أحمد بقشان التخطيط لهذه الرحلات على هذا المستوى المتعدد المنافع للوطنين، وإتاحته الفرصة لهم لزيارة أوطانهم الأولى، والمشاركة في الدفع بعجلة الدعم السعودي الخيري والاستثماري فيها، وفق ما نصَّت عليه الاتفاقات المتعددة المُبرمة بين الوطنين في مختلف مجالات التجارة والاستثمار والاقتصاد.فلا عجب إذن أن تكون هذه الرحلات بالنسبة لجميع أفرادها (مكوكية)، فقد كان السفر إلى حضرموت بالنسبة لهم بكل ما فيه من عجب وإعجاب، مثل السفر إلى الفضاء، ولهذا كان لا بد أن نطلق عليها رحلات بقشان (المكوكية) (الاستكشافية)، ولا بد أن نطلق على المسافرين فيها (رواداً)، لأنهم بالفعل مثل (رواد الفضاء)، لهذا لم أعجب عندما قال لي أحد رواد الرحلة التي سافرت فيها عندما حطّت بنا الطائرة على أرض مطار الريان بحضرموت، وهو من أبناء نجد قال: رغم أن المسافة من الرياض إلى حضرموت لا يعترضها بحر، أو نهر، أو جبل إلا أنني أشعر وكأنني وصلت القمر!.. لا أكاد أصدق أنني سأكون يوماً على أرض هذا الامتداد الطبيعي لوطني!وهكذا فلم تعد رحلات عبد الله أحمد بقشان مجرد رحلات استكشاف أبناء وطن واحد لجزء آخر من وطنهم، بل أصبحت هذه الرحلات رحلات صلة أرحام ولقاء إخوة بإخوانهم، ومعرفة أُسر بأكملها لمواطن جذورها وصلة أهلها، والإحسان إليهم بما أوجبه الله عليهم من حق ذوي القربى، فمن لم يكن من ذوي القربى فحق الجوار.. فما أكثر الذين اصطحبهم عبد الله أحمد بقشان إلى زيارة قراهم الفقيرة التي خرج أهاليهم منها مهاجرين إلى المملكة، فوجدوا فيها لهم أرحاماً وأقرباء وأنساباً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي الرحلة التي حملت طائرة بقشان في عيد الفطر المبارك سنة 1425هـ كوكبة من الأكاديميين السعوديين من ذوي الأصول الحضرمية لزيارة أرض الآباء والأجداد، كان من بين رواد هذه الرحلة خمسة من أُسرة بلخيور، التي هاجرت من بلدة الهجرين في حضرموت إلى المملكة قبل قرنين من الزمان، وهم الدكتور عدنان أحمد بلخيور رئيس قسم الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، والدكتور منصور أحمد بخليور، طبيب صحة البيئة بجامعة الملك عبدالعزيز، والمهندس خالد أحمد بلخيور، الرئيس التنفيذي للمؤسسة العربية للاتصالات الفضائية (عربسات)، والاستاذ صفوان أحمد بلخيور، الموظف بشركة الاتصالات السعودية، والأستاذ طارق أحمد بلخيور، مدير التسويق بعربسات، وقد نشرت مجلة الأمل التي تصدر في المكلأ بإشراف الصديق الدكتور عمر عبد الله بامحسون في عدد مارس 2005م انطباعات أبناء هذه الأُسرة الذين يزورون موطن جذورهم لأول مرة، ولقاءهم الحار والمؤثر بمن بقي من أقربائهم وأرحامهم.. أما بلدة الهجرين التاريخية التي خرجت منها هذه الأُسرة وبعض الأُسر الثرية في المملكة، مثل أُسرة بن محفوظ فلها حديث يطول عندما نصل للكتابة عن زيارتنا لها.

ومن الناحية الاقتصادية كان للمهندس عبد الله أحمد بقشان مشاركة حقيقية وفعَّالة أعطت دفعة قوية للرأسمال الوطني السعودي لفتح مجال الاستثمار في اليمن الشقيق، وفق اتفاقات التبادل التجاري والتعاون الاستثماري الموقَّعة بين الوطنين على كافة المستويات الاقتصادية، وقد كان لهذه الدفعة دورها الكبير في ظهور أثر الاستثمار السعودي على تحديث البنية التحتية لمدينة المكلأ عاصمة محافظة حضرموت، ومن أهم مظاهره ما قام به رجل الأعمال السعودي الكبير الشيخ محمد حسين العمودي بردم مساحات واسعة من شاطئ المكلأ إلى داخل البحر، فبعدما كانت مدينة المكلأ محصورة في شريط ساحلي بين البحر والجبل، وكانت أمواج البحر تتكسَّر على واجهات منازلها، أصبح لها الآن (كورنيش) كبير يتسع لطريقين، وأُعطي العمودي مقابل ذلك العمل الكبير المساحات التي ردمت لاستثمارها تجارياً، فتغيَّرت بذلك ملامح مدينة المكلأ، التي أصبح طريق الكورنيش بها أشبه بكورنيش جدة، والإسكندرية مع فوارق الحجم والمساحة.

وبرأسمال سعودي أسس المهندس عبد الله أحمد بقشان، ورجل البنك الأهلي الهمام الشيخ عبد الله سالم باحمدان الشركة العربية اليمنية للأسمنت المحدودة التي تهدف إلى إنتاج الكلنكر لتصنيع الأسمنت العادي والأسمنت المقاوم للأملاح للبناء في المناطق الساحلية، وقد ساهم في هذه الشركة عدد آخر من رجال الأعمال السعوديين، ومساهمة أكبر كانت من شركة أسمنت المنطقة الشرقية بالمملكة تقدر بمائتي مليون دولار، ويُقام المصنع حالياً بمنطقة عبد الله غريب الجبلية الواقعة على الطريق إلى خيلة على أرض مساحتها 22 كيلومتراً مربعاً وبطاقة إنتاجية قدرها (1.200.000) طن سنوياً، وقد تمَّ في جدة في فبراير 2005م توقيع عقد مع شركة هولتك كونسلتنج الخاصة المحدودة الهندية لعمل التصاميم الأولية التي يستغرق تنفيذها سبعة أشهر من ذلك التاريخ.

وبرأسمال سعودي أسس المهندس عبد الله أحمد بقشان (شركة أسماك اليمن المحدودة)، فقد وجد أنه بناء على دراسات جدوى عالمية أثبتت أن شواطئ حضرموت الواقعة على المحيط الهندي من أغنى بحار العالم بأجود أنواع الأسماك، وأن دولة مثل المملكة المغربية التي لا توجد بشواطئها أسماك بهذه النوعية أو الكمية، يُقدر دخلها من الثروة السمكية بحوالي خمسة أو ستة مليارات دولار، ولما كان لا يوجد باليمن الرأسمال الكافي للاستثمار في هذه الثروة السمكية الهائلة، كان لا بد للمستثمر السعودي (الجار والشقيق) أن يكون في مقدمة من يمد يده للاستثمار في هذه الثروة، التي لا تزال تتسع للكثير بما يعود بالنفع للوطنين بما يحققه من تشغيل رأسمال أحدهما، وتشغيل عمالة الآخر.

وتقديراً للجهود التي يُقدِّمها المهندس الشيخ عبد الله أحمد بقشان داخل وطنه، أو لوطن آبائه وأجداده اليمن (الجار والشقيق) بما فيها من تنشيط لحركة الرأسمال الوطني السعودي في المجالين العربي والإسلامي خيرياً واستثمارياً، وأكرمه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الحرس الوطني بالمملكة في 27 - 12 - 2004م بدرع تذكاري بمناسبة دعمه لتأسيس أول كرسي علمي بالمملكة للدراسات على مستوى الجامعات السعودية حيث خصص ذلك الكرسي لمجال الكهرباء..

 

### 4 ###

رجل بسيط في مظهره، بسيط في ملبسه ومسكنه، بسيط في مأكله ومشربه، بسيط في مسلكه وسجاياه، بسيط في حديثه وصمته وجلوسه وقيامه وكل حركاته وسكناته، لا يتكلف فيخرج عن طبيعته التي فطره الله عليها، ولا يدعي ما ليس فيه، يتحدث بهدوء وسكينة ولا يرتفع له صوت مهما كان الأمر، يشهد له المخالطون له من موظفيه ومرافقيه في حله وترحاله، وخدمه في بيوته، إنهم لم يروه يوماً ساخطاً غاضباً، ولم يرتفع صوته على مخلوق منهم، فإذا أخطأ أحد منهم ستر عليه، وراعى مشاعره، فلا يلومه أمام الآخرين، وإنما طلبه وأسر إليه بعتابه كأنه يعاتب صديقاً أو قريباً.

متواضع لا يستكبر ولا يستنكف من أن يأكل يومياً على مائدة واحدة مع خدمه وعماله وحراس بيته خصوصاً في الرياض عندما يكون بعيداً عن أهله وأسرته.

صادق لا يكذب ولا يعد إلا بما يستطيع، فإذا وعد وفى، وإذا لم يستطع اعتذر بأدب جم، يبادر في الملمات ولا ينتظر أن يطلب منه، له حاسة مميزة في معرفة ذوي الحاجات والذين لا يسألون الناس إلحافاً فيحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.

يشهد له حرس منزله وخدمه أنه لم يرد من بابه أحداً طلب مقابلته، ولا جعل بينه وبين عامة الناس حاجباً أو بواباً، باب بيته في جدة أو في الرياض مفتوح لكل إنسان، مائدته عامرة، وضيافته حاضرة لمن عرف ومن لم يعرف.

متواضع، يحترم كل الناس، فالإنسان عنده جدير بالاحترام لإنسانيته التي كرمها الله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70) سورة الإسراء، ولهذا فلا فرق عنده في هذا الاحترام بين غني وفقير، أو كبير وصغير ولا علاقة لوظائف الناس ومراتبهم وأنسابهم أو جاههم وأموالهم بالاحترام الذي يستحقونه لإنسانيتهم، وهذا لا يعني أنه لا ينزل الناس منازلهم، ولكن هذه المنزلة تكبر في نظره بمقدار اقتراب هذا الإنسان من خدمة الأوطان وحب الخير وفعله، والذود عن حياض الدين.

محافظ على فرائضه، لا يغيب عن أداء الصلاة جماعة في المسجد إلا إضراراً، قدوة في دينه ودنياه لكل العاملين معه في بيته، فالعبادة عنده إذا لم تنعكس على المعاملة بطلت، واعياً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدين المعاملة).

والمعاملة عمل وسلوك، لذلك فهو لا يلقي بالاً لظاهر عبادات الإنسان مؤمناً بأن المسلم إذا لم يترجم عباداته إلى سلوك لم يستفد من عبادته شيئاً، وقد صليت معه أكثر من مرة في المسجد المجاور لبيته فلم أجده يتخطى رقاب الناس ليصل إلى الصف الأول، وإنما يصلي حيث انتهى به المكان، ولم أجده يبالغ في خشوعه أثناء صلاته أمام الناس، ولا يطيل المكوث في المسجد بعد أداء النافلة، وتفسيري أنه يخشى على نفسه - لوقوع العيون عليه من مظنة الرياء بعبادته وأظن أن صلاته وحيداً أطول منها أمام الناس، لأنها بينه وبين ربه، وحسب الناس منه عمله، فعمل المؤمن عبادة ما دام حلالاً طيباً خالياً من الظلم والحرام، وتعامله مع عباد الله عبادة ما دام عادلاً صادقاً.

فعبادة الله بالفرائض والنوافل لا يعلم صدقها إلا الله لأنها ترتفع إلى الله على قدر نية صاحبها، أما عبادة الله بالمعاملة فذلك ما يظهر صدقه على العيان، وأثره على الناس، وهي الحقيقة الواقعة التي تعكس إيمان المؤمن بالله بصدقه مع الناس، وإحسانه إليهم، ورفقه بهم، وتسامحه معهم، والتماس الأعذار لهم، وفي هذا ترجمة حقيقية لقول الله تعالى في الحديث القدسي: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين، وابن السبيل، والأرملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي، وأستحفظه بملائكتي، أجعل له في الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلماً، ومثله في هذا خلقي كمثل الفردوس في الجنة.

ومثل هذا يقول على لسانه الشاعر:

إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى    وأعمل  فكر الليل والليل عاكر  وباكرني في حاجة لم تكن لها    سواي، ولا من نكبة الدهر ناصر  فرجت بمالي همَّه عن خناقه    وزاوله الهم الطروقُ المساور  وكان له فضل عليَّ بظنه    بي الخير إني للذي ظن شاكر

 

هذا هو عبدالله أحمد بغشان حادي الركب ما بين خيلة الواقعة في قلب وادي حضرموت باليمن ومكة المكرمة مهوى قلوب المسلمين في المملكة العربية السعودية..

 

### 5 ###

رجال أفذاذ جمعوا بين العصامية والأريحية وعلاقة المحتد، توارثوا الشهامة والنخوة وفعل الخير وصنع المعروف أباً عن جد. كرماء نجباء تجري في عروقهم المروءة، تساقوها من نبع لا ينضب.

حكماء تنتهي عندهم المشكلات، وتهدأ على أيديهم المشكلات، وتُحلُّ بهم المعضلات.

تمتدُّ جذورهم بين خيلة بوادي دوعن في حضرموت باليمن ومكة المكرمة وجدة بالحجاز في المملكة العربية السعودية.

نالوا الحظوة والمكانة والشفاعة لدى الحكَّام في البلدين؛ لما عُرف عنهم من الإخلاص والولاء، ففي المملكة احترمهم الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه، كما احترمهم أولاده الملوك الميامين من بعده؛ لإسهامهم الفعال في حركة الاقتصاد الوطني، وأياديهم البيضاء في مجالات النفع العام.

وفي اليمن نالوا المكانة الرفيعة لدى سلاطين الدولة الفعيطية في حضرموت سابقاً والحكومة اليمنية حالياً.

يتعاملون مع دول الجزيرة العربية باعتبارها شعباً واحداً ووطناً واحداً، فأحبَّهم الشعب في الوطنين الكبيرين المملكة واليمن.

عاش الشيخ سعيد سليمان بقشان الكبير (1298- 1386هـ) حياته كلها في حضرموت، وعمل بالتجارة والزراعة وتربية الأغنام والإبل، وعُرف بصلاحه وبرِّه وتقواه وعشقه لفعل الخير، فكبرت مكانته في نفوس الناس، وأعلوا من قدره ومقامه، لا بسبب ماله وتجارته ولكن بسبب حبِّه لإصلاح ذات البين، ونخوته في إغاثة الملهوف وقضاء حاجة المنقطع وإعانة المعسر وإيواء الغريب، فكانت داره في خيلة مفتوحة لكل وافد، لا تردُّ سائلاً ولا يُقفل بابها، مائدته متاحة، ويده مبسوطة، وقلبه يتسع للجميع.

وقد خلف الشيخ سعيد سليمان بقشان من بعده أربعة من أفذاذ الرجال، ورثوا عنه علوَّ همته، وشهامته، وكرمه، وحبه للخير، وهم: الشيخ عبد الله سعيد بقشان (1319- 1408هـ)، والشيخ أحمد سعيد بقشان (1321- 1385هـ)، والشيخ سليمان سعيد بقشان (1323- 1425هـ)، والشيخ هادي سعيد بقشان.

وقد قدَّر الله على أبناء حضرموت، وبخاصة وادي دوعن، الضرب في الأرض، والسعي في مناكبها؛ طلباً للرزق، فهاجروا منذ القديم إلى جزر الهند الشرقية ومعظم بلاد الشرق الأقصى وشرق إفريقيا، فنشروا الإسلام في تلك الأصقاع البعيدة بما اشتهروا به من الأمانة في الذمة، وحسن الخلق في المعاملة، والصدق في التجارة، فدخل الناس في دين الله على أيديهم أفواجاً.

ثم تلتها هجرتهم بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية التي بدأت قبل العهد السعودي، وزادت في عهد الملك عبد العزيز، فاشتهروا بالسُّمعة نفسها؛ الأمانة في المعاملة والتجارة.

وسمعة الحضارم في التجارة فاقت على سمعتهم في العلم، والحقيقة أن منهم علماء أجلاء وقضاة عادلين أضاؤوا صفحاتٍ من تاريخ الإسلام في مصر والأندلس؛ ففي فتح مصر كان أكثر الجند والقادة من القبائل اليمانية والحجازية، وكان أكثر العلماء والقضاة من القبائل الحضرمية، وحسبهم أن أول قاض عُيِّن في مصر بعد الفتح الإسلامي كان حضرمياً، قد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان عمَّن يولِّي القضاء في مصر، فأجابه معاوية: (لا تولِّين القضاء والمال في مصر إلا حضرمياً أو أزدياً؛ فإنهم أهل أمانة).

ومنذ ذلك التاريخ أصبح القضاء وبيت المال في مصر حكراً على الحضارم واحداً تلو الآخر، حتى بلغوا ثمانية عشر قاضياً، وتوجد حالياً في مقبرة باب الوزير بالقاهرة مقبرة تسمَّى مقبرة القضاة الحضارم.

ومَن يتصفَّح مجلدات (نفح الطيب) للمقري في تاريخ الأندلس سيجد أمثالهم من العلماء والقضاة بالعشرات.

وقد حقَّق الحضارم المكانة العلمية نفسها في الحجاز؛ فقد صدر مؤخراً كتاب بعنوان (علماء الحضارم في جدة) للشيخ علي بن سالم العميري المتوفَّى سنة 1373هـ.

والحقيقة الأخرى الغائبة عن كثير من أبناء الأجيال الحديثة أن الحضارم الأوائل زاوجوا بين حب العلم والاشتغال بالتجارة، فمعظم علمائهم اشتغلوا بالتجارة لتجنُّب الارتزاق بالعلم، فإذا كسبوا سمعة الأمانة فلأنهم كانوا في الأساس علماء يدعون إلى تقوى الله، ويعلمون الناس أمور دينهم.

ولهذا لا بدَّ من الإيضاح أن التجارة وحدها لا تعلِّم الأمانة، ولكنه الدين والخلق القويم إذا سار على طريقه الإنسان أصبح كالصراط المستقيم في كل شيء.

وعلى هذا الطريق أرسل الشيخ سعيد بن سليمان بقشان الكبير أولاده إلى الحجاز طلباً للرزق، فوصلها (عبد الله) سنة 1333هـ، وتبعه (أحمد) سنة 1335هـ، ثم لحق بهما فيما بعد (سليمان) سنة 1341هـ، وساروا في الناس على نهج والدهم ونصائحه بالصدق والأمانة والدين، فاشتغلوا في تجارة القماش، وبارك الله في تجارتهم فسرعان ما اتَّسعت.

ولما دخل الملك عبد العزيز الحجاز كانوا في مقدِّمة مَن بايعه، ففرح والدهم بذلك وأرسل إليهم رسالة تقول: إن عبد العزيز بن سعود هو حاضر الجزيرة الواعد، وموحِّدها الصادق، ومستقبلها المشرق، ناصر دين الله، وحامي حمى الحرمين.

وكان في آخرها ما جاء على لسان شاعرهم الحضرمي علي أحمد باكثير الذي يقول:

 

ألا إن ضوءاً في (الحجاز) فتيله (بنجد) تُراعيه العيون وتأملُ  ومهما يكن ذنب الزمان فإنه (بآل سعود) جاءنا يتنقَّلُ  هم الأمل الباقي لنهضة يعرب  ومعقلُها إن يبقى للعرب معقلُ  بدور على أفق المعالي وأنجمٌ  وشمسهم (عبد العزيز) المكلَّلُ!

 

### 6 ###

الاشتغال بالتجارة لا يصنع محبة الناس، فالتاجر إذا لم يخدم إلا نفسه ومصالحه وظل بعيداً عن المشاركة بماله في خدمة مجتمعه وتنمية وطنه عاش وحيداً ومات وحيدا، مادام لايذكره أحد بمآثره أو مكرمة أو فضيلة، أو فعل المعروف، وما أكثر الذين كنزوا المال في هذه الدنيا وماتوا دونه ليصبحوا نسياً منسياً من بعده.

وقس على هذا عشرات الأسر التي كانت في يوم من الأيام من ألمع الأسماء التجارية انتهت بانتهاء تجارتها وعاشت من بعدها أسر أخرى خالدة في ذاكرة الناس، تحتفي بها الأوطان، ويتغنى المجتمع بمناقبها، وترطب الألسنة عند ذكر إحسانها وتدعو لها القلوب بدوام الخير.

ومن هذه الأسرة التجارية المميزة بخدمة الأوطان ومد يد الخير بالإحسان أسرة آل بقشان التي بلغ عمرها التجاري في المملكة أكثر من مائة عام.

عرف لها قدرها خبير الرجال جلالة الملك عبالعزيز -طيب الله ثراه- فقربها إليه، وائتمنها على أداء بعض خدماته وأوكل إليها كسوة بيته وأبنائه الأمراء حيث كان يشتري من أقمشة بقشان.

وتجارة الأقمشة هي العمل العريق الذي بدأت به هذه الأسرة، واحتلت هذه الأسرة المكانة نفسها لدى جلالة الملك سعود -رحمه الله- وكبرت هذه المكانة لا بتوسع هذه الأسرة في مناشطها التجارية بل بتوسعها في مناشط الخير وأعماله والمساهمة بشهامة في إعمار الإنسان والأوطان ببذل الأوفياء وسخاء الكرماء حتى بلغت هذه المكانة ذروتها في عهد جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز، حيث أصبح الشيخان عبدالله سعيد بقشان وأحمد سعيد بقشان من الرجال الثقاة المقربين إليه المسموعي الكلمة لديه.

تعامل الأشقاء الثلاثة (عبدالله) و(أحمد) و(سليمان) أبناء الشيخ سعيد سليمان بقشان مع جزيرة العرب بصفتها وطناً واحداً، لم ينسوا وطنهم الأول حضرموت الذي ولدوا فيه.

ولم يهجروه كما هجره غيرهم، فلم يزره قط، ولم ينتقص هذا الوفاء من حبهم وعطائهم وولائهم لوطنهم الأكبر المملكة العربية السعودية الذي انفتحت لهم فيه أبواب الخير، ويعود الفضل بعدالله سبحانه وتعالى له ولحكامه الميامين فيما تحقق لهم وعلى أيديهم.

* قسم الإخوة الثلاثة مهام عملهم التجاري والخيري بين وطنهم، فكان الأخوان (عبدالله) و(سليمان) يقضيان الكثير من وقتهما- خاصة في العهود الأولى- في حضرموت، وتولى (أحمد) قيادة العمل التجاري والخيري في المملكة، يروي السلطان غالب بن عوض القعيطي آخر سلاطين الدولة القعيطية في حضرموت الذي يعيش حالياً في المملكة عن ما قامت به أسرة آل بقشان من دور كبير في تعزيز العلاقات بين الوطنين الجارين إبان حكمه وحكم آبائه في حضرموت، ويذكر أن الشيخين عبدالله وأحمد سعيد بقشان يدخلان على عظمة السلطان صالح بن غالب القعيطي كما يدخلان على جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز دون التقيد بالبروتوكولات السلطانية والملكية بحكم الثقة التي كانا يتمتعان بها.

ويذكر السلطان غالب أن الشيخ عبدالله سعيد بقشان كان يقوم بدور رسول شخصي بينه وبين الملك فيصل حيث كانت اتفاقية الحماية البريطانية تمنع السلطان القعيطي من التخاطب مباشرة مع زعماء الدول الأخرى إلا بإذنها (!!) وشهد السلطان غالب بدور أسرة آل بقشان في تسهيل عمليات النقل وتمهيد الطرق وحل المنازعات القبلية، وأصبح بيتهم في خيلة كما هو حال بيتهم في جدة المكان الذي تحط عنده رحال الكبراء وتنتهي عنده حاجات المساكين والمكروبين والفقراء، وقد فتح الشيخ أحمد سيد بقشان باسم الأسرة بكامل موظفيه لتوفير أسباب الإقامة والعمل إن أمكن، أو العلاج وتقديم كافة أنواع المساعدة للقادمين من حضرموت في أوقات الشدة التي مر بها ذلك الوطن، حتى أثر عن جلالة الملك فيصل قوله للشيخ أحمد سعيد بقشان عندما دخل عليه لاستئذانه في القيام بهذا الدور: (توكل على الله.. فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لغيرهم).

وعلى هذا المبدأ، مبدأ (من لاخير فيه لأهله لا خير فيه لغيرهم (الأقربون أولى بالمعروف) سار الأبناء على طريق الآباء كما سار الآباء على طريق الأجداد، فما يقدمه الآن عبدالله بن أحمد سعيد بقشان ومرعي بن عبدالله سعيد بقشان وأحمد بن سليمان سعيد بقشان وغيرهم من أغصان هذه الدوحة الوارفة الظلال ماهو إلا خطوات على طريق طويل يرصف بالوفاء والولاء وصناعة المعروف انطلق من خيلة، فكانت الطريق منها إلى مكة المكرمة، ثم أصبح الطريق الدائري عائداً إليها بعد قرن من الزمان، ولعل هذه الفكرة كما كانت في ذهني كانت في أذهان الكثير من ركاب طائرة عبدالله أحمد بقشان الخاصة التي انطلقت من الرياض يوم 29-3- 2005م، وخاصة في لحظة الهبوط على مطار الريان، مطار حضرموت، وكان هناك من يشير على الأرض المنبسطة التي تنتهي بتلال توارى خلفها وديان، بأن ذاك هو الطريق إلى خيلة، فقال الصديق الدكتور عمر عبدالله بامحسون العارف بحكاية طريق خيلة، قال وهو يترحم على الشيخ سليمان سعيد بقشان: (لابد من خيلة وإن طال السفر)!.

فما حكاية الشيخ سليمان مع الطريق إلى خيلة؟ وما الذي كان يدور في أذهان أعضاء الوفد الاقتصادي السعودي لحظة هبوط الطائرة مطار حضرموت؟

### 7 ###

(لا بد من خيلة وإن طال السفر) لكن السفر لم يطل، لم يزد على ساعتين على طائرة الشيخ عبدالله أحمد بقشان من الرياض إلى حضرموت.

كان البرنامج المعد أن يكون التوجه من المطار إلى خيلة مباشرة، وما إن بدأ الموكب من عدة سيارات في السير على الطريق إلى خيلة التي تبدأ على مقربة من المطار، تساءل الإخوة الذين لم يزوروا حضرموت من قبل، وقال بعضهم بألم: كيف فاتنا أن نعرف شيئاً عن تاريخ هذا الوطن العزيز الذي يبدو وكأنه على بعد أمتار من نجد؟! ووجدت نفسي أتحدث إلى بعضهم عن مجمل تاريخ حضرموت وتاريخ وادي دوعن على وجه الخصوص الذي خرج منه معظم أصحاب رؤوس الأموال الضخمة من أبناء حضرموت في المملكة العربية السعودية، وكان أخونا الدكتور عمر عبدالله بامحسون بحماسه المعهود وإخلاصه الذي لا يعرف الحدود يضيف ويعلق ويشير بيديه إلى المواقع بين الجبال.

قلنا لهم إن وادي دوعن اشتهر بشيئين: أولهما أغنى أنواع الرجال، وثانيهما أغلى أنواع العسل.

قلت لهم إن دوعن قديمة قدم التاريخ وقد ورد ذكرها في كتب القدماء في عصور ما قبل الإسلام، وذكرها بطليموس باسم (TOANI) توآني، وكان هذا الاسم يُطلق على مدينة واحدة سُمي الوادي باسمها فيما بعد، وعلى أنقاض هذه المدينة بُنيت مدينة الخريبة عاصمة وادي دوعن الأيمن.

واخترق بنا مركب عبدالله أحمد بقشان جزءاً كبيراً من الهضاب الجنوبية الغربية لحضرموت تحيط بكل منها جبال داكنة جرداء تنحدر انحداراً يزيد على 1000 قدم، وتتفرع منها أربعة أودية هي: (وادي دوعن الأيمن)، و(وادي دوعن الأيسر)، و(وادي عمد)، و(وادي العين).

ويُطلق على هذه الوديان في العموم وادي حضرموت، وقد استوطنت هذا الوادي في القديم قبيلة كندة العظيمة التي انتشرت في جزيرة العرب كلها قبل الإسلام، وتؤكد المصادر التاريخية أن وادي حضرموت كان مزدهراً مخضوضراً، أعلاه الحصون وأسفله الذرع والنخل، وقد بدأ الآن الاخضرار يعود إليه مصداقاً لبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن جزيرة العرب ستعود كلها خضراء في الأزمنة الأخيرة كما كانت من قبل.

وبعد أن صعدنا ما يسمى ب(عقبة عبدالله غريب)، وهي مرتفعات أشبه بمرتفعات الهدى على أنها أصغر، سِرنا في مرتفعات تقلُ درجةُ الحرارة فيها عن الثلاثين في ذروة الصيف، وعند مفترق مكان يسمى (رأس حويرة) يبدأ الطريق المباشر إلى (خيلة بقشان)، وهو طريق طوله 53 كيلومتراً، تمت سفلتته على يد الشيخ المهندس عبدالله أحمد بقشان باسم أسرة آل بقشان، وهو حلم داعب خيال قادة هذه الأسرة لعدة عقود لكن الظروف السياسية القاهرة التي مرت بها البلاد في ظل الحكم الماركسي حالت دون ذلك، وكادت الأسرة تضحي بواحد من أغلى رجالها في سبيل تحقيق هذا الحلم لتحل مشكلة المواصلات، ويَسْهُلُ وصولُ المرضى وذوو الحاجات إلى مناطق الخدمات.

حمل هذه الفكرة وقدر تنفيذها وكاد يفقد حياته في سبيلها المحسن الكبير الشيخ سليمان بن سعيد بقشان في غضون سنة 1390-1391ه، وسافر بنفسه إلى هناك وأحضر معه ما يلزم من معدات ومهندسين، وتحت مسميات عديدة ودعاوى واهية عرقلت السلطات التعسفية هذا المشروع، وكانت تلك البلاد تمر في تلك المرحلة بأصعب مراحل تاريخها السياسي فقد كان الرفاق في عدة قمة حماسهم للتطبيق الماركسي ووضع ما كان يسمى باليمن الجنوبي في ذلك الوقت خلف ستار حديدي، فباسم القضاء على الكهنوت سحلوا العلماء، وبتهمة البرجوازية صادروا أموال الناس، واختطفوا مَنْ لَمْ يكن لهم حجة عليه، فاختفى من كل مدينة، أو قرية، أو ناحية، رموز رجالها وقادة الرأي فيها، ولم يعرف أهاليهم عنهم شيئاً إلى اليوم، في هذه الظروف القاسية بدأ الشيخ سليمان سعيد بقشان - رحمة الله عليه - محاولاته فلم يهن، ولم يستكن حتى زج به أعداء أنفسهم وأعداء وطنهم في غياهب السجن، وليس له مِنْ تهمة إلا أنه أراد أن يخدم وطنه، وينقذ مواطنيه من معاناة الطريق القاسي القفر الذي ينهك الرجال ويهلك النساء.

اُخْتُطِفَ الشيخُ سليمانُ وتَمَّ ترحيلُه إلى سجن في المكلا، ولم تعترف السلطات بوجوده إلا بعد أنْ أُدخل معتقل (الفتح) الرهيب في عدن، وقد أورد الأستاذ سند بايعشوت قصة اعتقاله كاملة في مقال له بمجلة (شعاع الأمل) عدد فبراير 2005م، وبمساعٍ من الملك فيصل - رحمه الله - تدخل الأستاذ أحمد السقاف الشاعر والبرلماني والسفير الكويتي اليماني الأصل لدى السلطات الماركسية التي كانت تناصب المملكة العداء آنذاك حتى الإفراج عن الشيخ سليمان بعد ستة أشهر من اعتقاله، فظهر وكأنه قد كُتِبَ له عمرٌ جديدٌ، فتنفست أسرة بقشان الصعداء بعودة شيخها وتنفس معهم كل أبناء حضرموت في المملكة، وتوجهوا بالشكر لله أرحم الراحمين ثم للملك فيصل رحمه الله.

ولكن الشيخ سليمان لم ييأس، ولم يوقف مساعيه لتحقيق الحلم، فإما أنْ يتحقق أو يموت دونه، فتواصلت الجهود حتى تم الاتفاق رسمياً مع السلطات في غضون سنة 1405هـ - 1985م، وكانت سطوة الشيوعية قد انهدَّت أركانها على مستوى العالم، وبدأ الرفاق في عدن يبحثون عن وسائل تخفف من حدة ألوانهم الحمراء ليضمنوا شيئاً من الاستمرار، وظهر الشيخ سليمان بقشان وكأنه أسعد الخلق، وداعب خيال سكان وادي دوعن موعد اقتراب تحقيق الحلم على طريق خيلة، وكانت تباشير الأحداث العالمية تشير بأنه يلتقي في طريقه الحرية فأصروا عليه، ولسان حالهم يقول: (لا بد من خيلة وإن طال العذاب)!! 

 

### (الحلقة الأخيرة) ###

اصطحب المهندس عبدالله أحمد بقشان الوفد الاقتصادي السعودي إلى خيلة التي يطلق عليها (خيلة بقشان) لوجود هذه الأسرة العريقة بها، وتقع خيلة في الجانب الشرقي من بطن الوادي الأيسر لوادي دوعن الكبير، أعجب أعضاء الوفد بذلك القصر المنيف الذي يقع في قلب خيلة بألوانه المتعددة الزاهية، وعلو بنائه، والطراز المعماري الجميل الذي يزينه الأمر الذي جعل الجمعية السعودية لعلوم العمران تعتبره نموذجاً رائعاً للعمارة الطينية في حضر موت ووضعت صورته على غلاف العدد الأخير من مجلتها.. كان هذا البيت ولا يزال محط رحال الكبراء ومهوى أفئدة الفقراء، فبعد أن تعرض للإهمال لسنوات طويلة بانتقال كل أسرة آل بقشان للمملكة، كانت عودة ابن الأسرة البار المهندس الشيخ عبدالله أحمد بقشان سنة 2003م لزيارة وطن الآباء والأجداد لأول مرة بعد زيارة له في معية والده عندما كان صبياً دون العاشرة.

كنا سمعنا أن الدافع الأساسي لزيارته لأرض الآباء والأجداد وقرار تنفيذ مشروع طريقة خيلة كان سبباً إنسانياً نتيجةً لما سمعة من قصص مؤلمة عن وفاة كثير من النساء الحوامل اللاتي يحضرهن ألم الولادة ويتعسر عليهن الطلق فيمتن في الطريق الوعر الطويل إلى مستشفى المكلا.

قال المهندس عبدالله أحمد بقشان إن قرار زيارته وقرار طريق خيلة كان بتشجيع كبير من الأسرة كلها التي استحضر جميع أفرادها قول الله سبحانه وتعالى عن النفس الإنسانية : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(32 سورة المائدة).

وبشق طريق خيلة تم إحياء لمئات النفوس، والأقربون أولى بالمعروف ومن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لغيرهم.. وأمام هذه الثوابت الإيمانية التي تعمل بها أسرة آل بقشان منذ مائة سنة، سافر المهندس الشيخ عبدالله بن أحمد بقشان في رحلة تاريخية إلى حضرموت محققاً حلم عمه الكبير الشيخ سليمان بن سعيد بقشان - رحمه الله - وبدعم وتشجيع كما قال من بقية أفراد الأسرة عمه الشيخ هادي سعيد بقشان وأبناء عمومته جميعاً وعلى رأسهم الشيخان علي ومرعي أبناء الشيخ عبدالله سعيد بقشان وإخوانه سالم ومحمد وعلي أبناء الشيخ أحمد سعيد بقشان وأبنائهم، ورافقه في هذه الرحلة إخوة الشيخ علي وابن عمه الشيخ أحمد بن سليمان بقشان، وكان يوماً تاريخياً ذلك اليوم الذي وضع فيه حجر أساس الطريق إلى خيلة، حضره فخامة رئيس الجمهورية اليمنية بنفسه تقديراً وعرفاناً منه باليد السعودية الممتدة دائماً بالخير والمعروف أداءً لحق الصلة والرحم والأخوة، وبات أهل خيلة تلك الليلة يلهجون بالشكر لله ذي الفضل والمنة ثم بالدعاء لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز فاتح طرق الخير العالم بحق الجوار، ولأسرة آل بقشان العميقة الجذور في الأصالة والنخوة والأريحية التي لم تنسها النعمة حق الأرحام والأهل والأصل وواجب الدين والإيمان والعقيدة وكان هذا الحدث التاريخي بحق حديث الناس في وادي دوعن بل وادي حضرموت كله.

وعرف الضيوف شيئاً من تاريخ خيلة إجابة على أسئلتهم، عرفوا أن خيلة بقشان تأسست سنة 1218هـ أي قبل أكثر من 200 سنة، وأن آل بقشان ينتمون لواحدة ممن أعرق قبائل جزيرة العرب، وهي قبيلة سيبان الحميرية التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وما الحالكة التي ينتهي إليها نسب هذه الأسرة إلا فرع من فروع سيبان الأم، وجرت أحاديث التاريخ والضيافة بعيداً عن مسمع الشيخ عبدالله أحمد بقشان (المضيف) الذي لا يحب الحديث عن نفسه أو أسرته، والعجيب في هذه الأسرة أن معظم أفرادها يسيرون على هذا النهج في التواضع، فهذا هو ابن عمه الكبير الشيخ مرعي بن عبدالله بقشان يهرب من أي حديث يمسه في تواضع لا يعرف الحدود، وهو أمر معروف لكن من عرف هؤلاء الناس أو اقترب منهم!.. إنهم يؤمنون ويعملون بمبدأ (اعمل واترك عملك وحده يتحدث عن نفسه).

وسيراً على هذا المبدأ فتحت الطريق إلى خيلة طرقاً عدة للاستثمار السعودي في اليمن، ومدت جسور للتلاقي بين الإخوة و الأحبة وربطت صلات متينة بين الأرحام كادت أن تنقطع، وفتحت باب البر على مصراعيه لكثير من أبناء ذلك الوطن الذين ركبوا على متن طائرة عبدالله أحمد بقشان ليشاهدوا أرض الآباء والأجداد لأول مرة أو بعد غياب عدة عقود، فاختلط دافع الاستثمار بدافع البر بالأصول والجذور حتى لم يعد بالإمكان التفريق بينهما عند بعض أصحاب الشهامة والمروءة والأصالة، أمثال الشيخ عبدالله باحمدان والشيخ محمد حسين العمودي، والشيخ أحمد بانعيم وغيرهم من الذين لا يتسع المقام لذكرهم.

وبقي خاطر حزين وعتاب محبين خرج به بعض أعضاء الوفد الذين كانوا معي في زيارة بلدة (الهجرين) التاريخية موطن أسرة آل بن محفوظ مؤسسي البنك الأهلي التجاري وأصحاب الثراء الطويل العريض رأينا قرية معلقة على جبل صعدنا إليها بشق النفس، يعيش أهلها في فقر مدقع وتفتقر لأبسط وسائل الحياة الحديثة، سأل صاحبي وهو من أبناء نجد مستغرباً، ماذا قدمت أسرة ابن محفوظ لهذه القرية البائسة؟فقيل له مشروعاً للمياه أسسه الشيخ سالم بن محفوظ - رحمه الله - قبل أكثر من خمسين عاماً ومدرسة بناها ابنه الشيخ عبدالإله جزاه الله خيراً، فصمت صاحبي ولم يعلق ولكني رأيت الحزن في عينيه.. حال أدمت قلب الغريب فأين قلب الرحم القريب، ولم أتكلم ولكني سمعت من يقول الأمل أن تلتفت الأسر الكريمة من أبناء هذه البلدة المسكينة وفي مقدمتهم أسرة آل ابن محفوظ لإخراج هذا الموطن من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وهم بذلك أجدر وعليه أقدر.. فعقب آخر: فكرمهم معروف وحبهم للخير مألوف ومن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لغيرهم.

وبعد فالطريق إلى خيلة طويل نستكمله في كتاب - إن شاء الله - ولن تحتمل جريدة يومية سيارة أكثر مما احتلمته مشكورة، وبقدر ما في هذا الطريق من الأمنيات والطموحات فيه من الأحزان والمشقات الكثير، ولكن شمس الآمال أقوى من ليل الأحزان، ومهما طال الليل وتلبدت السماء بالغيوم فضوء الشمس بدأ يسطع وسحابة الخير تهطل، ولن تتوقف حتى تتحول جزيرة العرب إلى واحة خضراء يحقق فيها وعد رسول الله رجال أفذاذ يعملون تحت راية لا إله إلا الله.

تاريخ الإدخال: 17 يونيو2005 م

د. محمد أبوبكر حميد

منقول من : سلسلة مقالات ( فيض الضمير ) كتبها د. محمد أبوبكر حميد في جريدة الجزيرة السعودية في الفترة من 21 إبريل إلى 9 يونيو لعام 2005 م

وصول وفد الجمعية السعودية لعلوم العمران إلى مدينة المكلا

صور من زيارة وفد جمعية علوم العمران السعودية لحضرموت

غلاف مجلة الديرة- العدد 21 : محرم/صفر 1426 هـ

خريطة مديرية دوعن

موقع خيلة بقشان

شركة أسماك اليمن المحدودة

  

 

البحث في موقع آل باوزير:

أجداد آل باوزير - آل عباس - الأنساب الحضرمية - الفبائل العربية- ثقافة عامة 

البحث في مجلة الموقع

من تراث الأسرة